نظام الدولة الاتحادية وأهميته في بناء اليمن الجديد

عضو مؤتمر الحوار الوطني

January 26, 2022

"ورقة عمل مقدمة للندوة التي يقيمها المكتب الفني لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني ــ مدينة تعز ــ 26 يناير 2022"

مقدمة:

تُسلّط هذه الورقة الأضواء على موضوع الدولة الاتحادية وأهميته في بناء اليمن الجديد، وقد شيّدنا معمارها على ثلاثة أعمدة:

الأول: مدخل نظري يتناول مفهوم الدولة الاتحادية وخصائصه والفرق بين هذا المفهوم ومفهوم الدولة البسيطة.

الثاني: يقدم مبررات ودواعي تطبيق نمط الدولة الاتحادية من خلال توضيح أفضليات هذا الخيار عن غيره من الخيارات المطروحة، لاسيما في ظل ما تعيشه البلاد من أوضاع الحرب المدمرة، وتنامي المشاريع الطائفية والجهوية، وتصارع الأجندة الخارجية على أرض اليمن، الأمر الذي ضاعف من مخاطر تفكك الدولة وتشظي المجتمع.

الثالث: النتائج والتوصيات.

المحور الأول: مدخل نظري:

أولاً: مفهوم الدولة الاتحادية:

الدولة الاتحادية:

هي نظام حكم سياسي، تُقسَّم بموجبه الدولة إلى عدد من الوحدات الإدارية/ السياسية (أقاليم ولايات، محافظات،... إلخ) تدير كلٌ منها شؤونها الداخلية بنفسها، فيما تتولى حكومة مركزية المهام التي تمثل جميع تلك الوحدات، مثل الشؤون الخارجية والدفاع، وأي مهام أخرى يحددها الدستور. [1]

والاتحادي يعني فيدرالي (Federal) وهو مؤلف من اتحاد وحدات سياسية تتنازل عن سيادتها الفردية للسلطة المركزية ولكنها تحتفظ بسلطات حكومية محدودة، كما تعني الفدرالية عملية توزيع السلطة بين حكومة مركزية وعدد من الوحدات الإقليمية من خلال اعتماد الصلاحيات المتفق عليها بالدستور.[2]

كيف تنشأ الدولة الاتحادية؟

بإحدى طريقتين: [3]

الأولى: طريقة الانضمام:

أي الانضمام الاختياري بين عدة دول مستقلة، أو بين ولايات، أو أقاليم إلى بعضها؛ بحث تتنازل كل منها عن سلطاتها الخارجية وبعض سلطاتها الداخلية، ثم تتوحد ثانية لتشكل الدولة الاتحادية (الفدرالية) على أساس الدستور الفيدرالي الذي يقيم اتحاداً نابعاً من رضاها وإرادتها في العيش المشترك.

أغلب وأعرق الدول الاتحادية نشأت وفقاً لهذه الطريقة، مثل: ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا ودولة الإمارات العربية المتحدة.

الطريقة الثانية: طريقة التفكك أو إعادة الترتيب:

أي تفكك أو إعادة ترتيب دولة بسيطة (موحدة) بحيث تصير دولة اتحادية مكونة من عدة ولايات أو أقاليم أو مقاطعات. من أمثلة الدول التي نشأت وفقاً لهذه الطريقة: البرازيل، العراق، الهند، المكسيك، الأرجنتين.

الفرق بين الدولة الاتحادية والدولة البسيطة:


 

أهمية النظام الاتحادي:

ويكتسبُ النظام الفيدرالي (أو الاتحادي) أهمية كبيرة لما يتمتع به من مرونة واستجابة أكبر لحاجات المواطن ــ الفرد، وقدرته على استيعاب الخصائص المميزة للمجتمعات المحلية، وإشراكها في الحياة العامة، وربطها بالعالم في ظل تأثير الثورة التكنولوجية الاتصالية، وشمول هذا التأثير أرجاء العالم.[4] 

والدولةُ الاتحادية ليست قالباً جاهزاً، يتم استدعاؤه وتطبيقه بصورة ميكانيكية، بل هي صيغة تتشكّل وفقاً لمقتضيات واقع كل بلد. فلا توجد تجربة فدرالية في العالم نسخة كربونية عن تجربة أخرى، بل إن لكل تجربة خصوصيتها وميزاتها النابعة من ظروفها الخاصة.

 

نستنتج مما سبق، الآتي:

1-  النظام الاتحادي ــ من حيث أصل الفكرة ــ إنّما هو تنظيم إداري للدولة اخترعته البشرية، مثله مثل التنظيمات الإدارية الدولتية الأخرى المُخترعة بشرياً.

2-  ينشأ النظام الاتحادي في أي بلد استجابةً لأسباب وعوامل موضوعية: سياسية أو اقتصادية أو ثقافية... إلخ. وغالباً ما تلجأ إليه الدول التي تعاني من مشكلات على صعيد الاندماج الوطني وتفاوت التنمية بين المناطق والجهات.

3-  النظام الاتحادي نمط من أنماط الوحدة، يهدف إلى توزيع السلطة والثروة بين وحدات إدارية وفقاً لدستور وقوانين واضحة ومحددة. وليس كما يظن البعض خطأً بأنه تقسيم للدولة، فالدولة الفدرالية تظلّ دولةً موحدة، بشعبٍ واحد، وبجنسيةٍ واحدة، وبشخصيةٍ دولية واحدة.

4-  النظام الاتحادي ليس قالباً ثابتاً جامداً، يناسب دول معينة ولا يناسب دول أخرى، كما يتوّهم البعض، بل نظام يتشكّل وفقاً لخصائص كل دولة وأوضاع كل مجتمع. فهناك دول اتحادية كبيرة من حيث المساحة وعدد السكان، مثل: أمريكا، وروسيا وغيرهما. وفي المقابل هناك دول فدرالية صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان، مثل: سويسرا، والإمارات العربية المتحدة.

كما أن هناك دول اتحادية تتميز بالتعدد والتنوع المجتمعي، وتضمّ أجناساً وأعراقاً وإثنيات متعددة، مثل: الهند، وماليزيا. وفي المقابل هناك دول فدرالية لا توجد فيها أجناس وأعراق وإثنيات متعددة، مثل: ألمانيا.

 

 

 

 

 

المحور الثاني: لماذا الدولة الاتحادية مهمة لليمن الجديد؟

تستدعي الإجابة على هذا السؤال تسليط الضوء على مسألتين أساسيتين:

الأولى: تجربة الدولة البسيطة ونتائجها على اليمن.

الثانية: مزايا الدولة الاتحادية ومدى قدرتها في حل المشكلات الراهنة في اليمن؟

 

تجربة الدولة البسيطة في اليمن:

أثبتت التجربة الملموسة أنّ الحكم المحليّ في ظروف بلدٍ كاليمن قد فشل فشلاً ذريعاً.

فقد عجزت "اللامركزية الإدارية" عجزاً بيّناً عن منع تغوُّل السلطة المركزية عليها؛ لأنها تفتقد للآليات المؤسسية والتشريعية الكفيلة بذلك، وفاقد الشيء لا يعطيه!

لقد آلَ الحكم المحلي المنصوص عليه في الدستور السابق إلى تمركُّز شديد للسلطة والثروة بيد النخبة الحاكمة، وقد أدى ذلك إلى نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية بالغة السوء، نبيّنها على النحو الآتي:

على المستوى الاجتماعي:

1-  ولّد احتكار السلطة والثروة احتقاناً اجتماعياً، اتخذ مساراً تصاعدياً مع مرور الوقت، وبدأت رقعة الاحتجاجات الشعبية تتسع كل يوم حتى بلغت ذروتها باندلاع شرارة الحَرَاك الجنوبي السلمي في 7/7/2007م، وتفجُّر الثورة الشعبية السلمية عشية 11 فبراير 2011م.

2-  تعاملت السلطة الاحتكارية مع الشعب كمُلحق بها، لا باعتباره كياناً مستقلاً عنها، يمتلك هوية ولديه مطالب وتطلعات.

وقامت بتكريس العلاقات الرعوية في المجتمع، شيخ مقابل رعية، وحاكم مقابل جماهير تابعة.

3-  استحوذ المركز على المشروعات التنموية ــ على رثاثتها ــ، وحُرمت المحافظات الأخرى منها، وهو ما ولّد ردة فعل اجتماعية، تمثلت في انتشار الدعوات الجهوية والنزعات المناطقية في طول البلاد وعرضها. وعليه، بدأ المجتمع اليمني يفقد ــ بالتدريج ــ شروط التماسك الاجتماعي والاندماج الوطني، في حين بدأ الانقسام والتشظي يتعزز بصورة أكبر.

4-  انبعثت مشاريع ماضوية كنا نعتقد أن الزمن قد طواها وإلى الأبد، مثل: "مشروع الجنوب العربي" الذي تتبناه بعض فصائل الحَرَاك في الجنوب، و"المشروع الطائفي السلالي" الذي يقوده تحالف الانقلاب في الشمال، والدعوات المناطقية التي تتنامى في المناطق الوسطى وفي المناطق الغربية وفي المناطق الشرقية.

5-  شهدت اليمن طوال الـ25 عاماً الماضية أزمات وحروب متناسلة ومتسلسلة، فكانت تخرج من أزمةٍ إلى أزمة، ومن حربٍ إلى حرب.

لم تكن هذه الحالة محض صدفة، بل سياسة ممنهجة لجأت إليها الطبقة المسيطرة للتنصّل عن القيام بالتزاماتها الدستورية والتنموية تجاه المجتمع.

على المستوى الاقتصادي:

1-  تراجعت مؤشرات النمو الاقتصادي بشكل مستمر، في مقابل ارتفاع تصاعدي مخيف لنسب الفقر والبطالة، وتضخّم أسعار السلع والخدمات.

2-  باتت الدولة تعاني من العجز الشامل: عجز في الميزانية العامة (Government Budget) وهو عجز يتكرر كل سنة، وعجز في ميزان المدفوعات(Balance of Payments)، وعجز عن خلق فرص عمل جديدة للعاطلين.

3-  ارتهنت الدولة وبشكل كليّ لمؤسسات الإقراض الإمبريالية: صندوق النقد والبنك الدوليين (IMF & WB)، وبموجب ذلك أُلزمت بتنفيذ ما سُميّ "برنامج الاصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي"(Economic Reform and Structural Adjustement Program). الذي كان له مآلات كارثية على الاقتصاد الوطني، فقد دُمِّر القطاع العام بفعل الخصخصة (privatization)، وانتُهجت سياسات التجويع والإفقار (أو سياسة الجُرْعَة كما هي متداولة شعبياً) وذلك برفع الدعم الحكومي عن السلع الغذائية والمشتقات النفطية وتعويم قيمة العملة الوطنية، وقد أفضى كل ذلك إلى تآكل الطبقة الوسطى وتزايد أعداد الفقراء.

فضلاً عن ذلك، انجرفت اليمن في سياسة "الإقراض والمديونية" و"الاستثمار الأجنبي غير المنضبط"، وبالتالي أصبح الاقتصاد الوطني تحت رحمة المتروبولات العالمية، وفقدت اليمن استقلالية قرارها الوطني، وأصبحت دولة تابعة كلياً، فالتبعية الاقتصادية مُقدمة للتبعية السياسية.

4-  استفحال الفساد بصورة مهولة، وصار مُمأسساً ومقنناً، في ظل تحكُّم سلطة غنائمية، تزاوج بين ممارسة المسؤولية الحكومية وممارسة النشاط التجاري والاستثماري. وتشكّلت شبكة مصالح انتفاعية زبائنية، شملت: مسؤولين حكوميين، وقادة عسكريين، ومشائخ قبائل، ورجال دين، ورجال أعمال، وسياسيين موالين، سعوا إلى مراكمة الثروة والذهاب بها إلى خارج البلاد لبناء مشاريع استثمارية وشركات عقارية خاصة.

5-  ساهم هذا الوضع في تعميق الفوارق الطبقية في المجتمع اليمني، فصارت أقلية بسيطة تعيش في ثراء فاحش، وأغلبية كاسحة تعاني من فقر وعوز.

على المستوى السياسي:

1-  عانت الحياة السياسية في اليمن من حالة تجريف وتضييق للمجال العام، وجرى تدجين المجتمع المدني، وتقييد الحريات العامة وانتهاك حقوق الإنسان، وقوبلَ حَرَاك الشارع بقمعٍ مفرط، وتعمّقت سيطرة الأجهزة الأمنية على الحياة المدنية، وانتشر العسس والمخبرين في كلّ شارع وزقاق لإحصاء أنفاس الناس.

2-  اُختزلت السلطة في شخص الحاكم وعائلته، وأُفرغت الديمقراطية من مضمونها الحقيقي، وأُلغيَ مبدأ التداول السلمي للسلطة "بتصفير العداد" مراتٍ عديدة، وانتهاءً بقلعه تماماً. وأُضفيَ على شخص الحاكم طابع القداسة فهو الرجل الضرورة الذي يرتبط مصير اليمن به.

3-  وأبعد من ذلك، بَدتْ اليمن تتجه إلى أن تصبح دولة جملوكية وراثية، بقيام أجهزة السلطة الترويج لمشروع التوريث.

4-  كل هذا وغيره، وضع اليمن في فوهة بركان، فكان أن انفجر البركان ولا تزال حممه تتطاير في كل اتجاه..!

 

رأينا فيما سبق ذكره، كيف فشلت تجربة الدولة البسيطة في اليمن، وأنها لم تنتج سوى تركّز أكبر في السلطة واحتكار أعمق للثروة.

وقد اتخذتْ عملية مركزة السلطة والثروة في اليمن شكلاً معقداً يمكن وصفها بـ"مركزية عنقودية انشطارية". قُسمِّت البلاد بموجبها إلى: مركز (عاصمة الدولة) وأطراف تابعة (بقية محافظات البلاد)، حيث المركز يستأثر بالسلطة والثروة ويحرم الأطراف منهما.

وفي كل قسم من هذين القسمين الرئيسيين، وجدنا تقسيمات فرعية انشطارية: فالعاصمة تنشطر إلى مناطق نفوذ "مركز" ومناطق تخوم "أطراف"، ففي الأولى تتركز مؤسسات الدولة والأحياء الراقية ومنازل كبار قيادات الدولة والسفارات، مثل: منطقة حدة، ومنطقة السبعين، ومنطقة الحصبة، ومنطقة التحرير، فيما بقية المناطق تعيش على الهامش، وتزدحم فيها العشوائيات، وينتشر فيها الفقر والجريمة.

وعلى ذات المنوال تنشطر مناطق الأطراف (المحافظات) إلى قسمين: مراكز الأطراف وتتمثل بعواصم المحافظات، وتخوم الأطراف وتتمثل بالبلدات والأرياف. حيث تستحوذ عواصم المحافظات على القرار المحلي والمشاريع ويتكدس فيها السكان، في حين تُهمَّش البلدات والمناطق الريفية وتبقى تابعة لعاصمة المحافظة.

وقد أفضى هذا الوضع إلى ترييف المدن بفعل هجرة أبناء الريف إلى المدينة بحثاً عن فرص أفضل للحياة، وتكدّس هؤلاء في الأحياء الشعبية التي تفتقر إلى الخدمات وينتشر فيها الفقر والجريمة.

ولم تقف المركزية عند هذا المستوى، بل أضحتْ حالة بنيوية شاملة، تجلّت في صور مختلفة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة وكافة مناحي الحياة.

فجماعة السلطة "مركز" والمجتمع "طرف"، والحزب الحاكم "مركز" الحياة السياسية وأحزاب المعارضة "أطراف"، والطبقة الطفيلية الكمبرادورية "مركز" الحياة الاقتصادية وبقية المنخرطين في النشاط الاقتصادي من عمال وعاملين وملاك صغار "أطراف"، ومسؤول مؤسسة حكومية "مركز" المؤسسة والعاملين فيها "أطراف"، وشيخ القبيلة "مركز" وبقية أبناء القبيلة "أطراف"، وزعيم الحزب "مركز" وبقية أعضاء الحزب "أطراف"، والرجل "مركز" والمرأة "طرف"، والأب "مركز" العائلة وبقية أفراد العائلة "أطراف"... وهكذا.

يضاف إلى كل ما سبق، التحديات الجسيمة التي أفرزها انقلاب 21 سبتمبر 2014م ونشوب حرب أهلية وتدخل اقليمي في مارس 2015م.

لقد أحدث هذا المسار تصدُّعاً كبيراً في جسم الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي، وتعزز الخطاب المناطقي وتكرست الدعاوى الطائفية بصورة غير مسبوقة. فقد بات الخطاب التقسيمي الهوياتي: شمال وجنوب، زيدية وشافعية، يمن أعلى ويمن أسفل، روافض ونواصب، قحطانية وهاشمية، هو الخطاب السائد.

أمام هذا الوضع المتفاقم الذي يهدد سلامة الكيان الوطني، ليس بإمكان العقل السياسي اليمني إلا أن يبحث عن حل حقيقي جاد، ولن يكون هذا الأمر مواتياً إلا بتغيير شكل الدولة البسيطة إلى الدولة الفدرالية.

إنّ الخيار الاتحادي علاج وقائي ضروري لتفادي تشظي اليمن إلى دويلات. وهو الحل الواقعي الموضوعي المطروح في مقابل المشاريع التطرفية الأخرى التي تتمثل بـ: التمسك بالدولة البسيطة، والمشروع الطائفي، ومشروع فك الارتباط.

 

الحاجة المُلِحة للدولة الاتحادية ومدى قدرتها على حل المشكلات الراهنة في اليمن:

خيار الدولة الاتحادية يمثل المدخل الموضوعي لحل القضية الجنوبية ومعالجة النتائج الكارثية لحرب 1994م. ويمثل آلية ناجعة لمواجهة المشروع الطائفي الذي يدّعي بالحق الإلهي في الحكم وحصره في ولاية البطنين، كما يمثل مصداً وطنياً أمام تنامي الدعوات الجهوية في أرجاء مختلفة من البلاد.

لا يقتصر مزايا الخيار الاتحادي على الاعتبارات السياسية المباشرة فقط، بل ينطوي على مزايا أخرى عديدة، ومنها:

1-  يعيدُ الخيار الاتحادي تشكيل السيكولوجيا الاجتماعية، فتعزِّز من قيم المواطنة، وتعمِّق الانتماء الوطني؛ إذ يتأسس على مصالح مشتركة ملموسة ومحسوسة، وعلى التكامل والتعاون والتكافؤ بين الأقاليم والمجتمعات المحلية. بينما في الدولة البسيطة يظل الانتماء مُفرَغاً، إذ يُغلّف بأيديولوجيا فوقية ورطانة سلطوية تلِّقن الناس دروساً في الوطنية، فتصيبهم بحالة اغتراب "في/ داخل" الوطن في مقابل حالة الغُربة "عن/ خارج" الوطن. وقد قدم الشاعر عبدالله البردوني وصفاً بليغاً لهذا الوضع، إذ قال:

يمانيــونَ فـي المنفــــى               ومنفيّــــــون فـي اليــمـــــنِ

2-  تناسب الدولة الاتحادية واقع اليمن وحقائق التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي والايكولوجي. فالمجتمعات المحلية تمتلك خصوصيات ثقافية من ناحية اللهجات والعادات والتقاليد وأنماط العيش والملابس والبنى الاعتقادية والمذهبية.

وبيئة اليمن بيئة متنوعة، ففيها مناطق مرتفعة ومناطق منبسطة، ومناطق جبلية ومناطق ساحلية ومناطق سهلية، وهذا ينعكس في اختلاف الطبائع والأمزجة وتباين العادات والتقاليد من منطقة إلى أخرى.

إن الدولة الاتحادية هي البوتقة التي بإمكانها أن تستوعب جدلية التعدد في الوحدة، والتنوع في إطار الشمول، والخصوصيات المحلية في إطار الهوية الوطنية الجامعة.

3-  ينسجم خيار الدولة الاتحادية مع معطيات التاريخ، بل ويمثّل عاملاً في النهوض الحضاري، فكما رأينا سابقاً إن أزهى الفترات التي عاشتها اليمن طوال تاريخها كان يسودها نظام كثير الشبه بالنظام الاتحادي الفيدرالي المعاصر.

4-  إن آلية توزيع السلطة في الدولة الاتحادية تتم بين عدة مستويات: الولايات، والأقاليم، والمستوى الاتحادي، وفي كل مستوى من هذه المستويات توجد مؤسسات تشريعية وتنفيذية يتم انتخابها من الشعب. وهذه آلية كفيلة بتفكيك عصبوية السلطة واحتكارها. وضمان بعدم قدرة حزب ما أن ينفرد بالسلطة أو يتحكّم بها مستقبلاً.

5-  الديمقراطية التوافقية التشاركية هي أساس النظام السياسي في الدولة الفدرالية لا الديمقراطية البسيطة (ديمقراطية الأغلبية).

ونموذج الديمقراطية التوافقية التشاركية هو أرقى نموذج ديمقراطي توصّل إليه الإنسان المعاصر نظراً لما يتيح من وسائل التفاعل الخلاق بين المجتمع والدولة، ويصون حقوق الإنسان والحريات العامة.

6-  تمنع الدولة الاتحادية بآلياتها التشريعية والمؤسسية من احتكار الثروة بيد أقلية أوليغارشية، وتعيد توزيعها بصورة عادلة بين الولايات والأقاليم والمستوى الاتحادي. وتخلق فرص متكافئة أمام المناطق وأقاليم البلاد للنهوض الذاتي والتنافس الحميد بينها. وتعمل على كسر البيروقراطية وإتاحة نظام إداري مرن يستوعب حاجات الناس المتجددة.

7-  يوجد في الدولة الاتحادية مؤسسات وآليات ضامنة لبقاء الكيان الوطني موحداً، ومن تلك: الدستور الاتحادي، الحكومة الاتحادية، مجلس الشعب الاتحادي بغرفتيه، الجمعية الوطنية، المحكمة الدستورية الاتحادية، ومجلس القضاء الأعلى الاتحادي، الجيش، الجنسية الواحدة، العملة الموحدة، ...إلخ.

8-  نؤكد على أن الحديث عن مزايا الدولة الاتحادية لا يعني إضفاء الأسطرة عليها أو تصويرها كـ "يوتوبيا" خلاصية نتخلص من خلالها من كل الأسقام.

كلا، فنحن نرى الدولة الاتحادية؛ آلية ضمن آليات أخرى عديدة تحتاجها اليمن لمعالجة أزماتها، لكنها آلية محورية بالطبع.

 

الاستنتاجات والتوصيات:

1-  النظام الاتحادي نظام إداري ــ سياسي وصيغة من صيغ الوحدة، تكمن ميزتها في أنّها تحدّ من احتكار السلطة والثروة في يد أقلية، وتعيد توزيعهما بشكل عادل بين كافة المواطنين.

2-  النظام الاتحادي نظام لجأت إليه الكثير من دول العالم بما فيها دول إسلامية لحل المشكلات التي تهدد وحدتها الوطنية، ومن أجل تحقيق مستوى متقدم من التطور الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.

3-  النظام الاتحادي ليس وصفة جاهزة، ولا توجد تجربة فدرالية في العالم هي نسخة كربونية عن تجربة أخرى، بل لكل مجتمع تجربته الخاصة به، وعلينا في اليمن أن نسعى لوضع بصمة خاصة بنا وبما يلبي احتياجاتنا ويتناسب مع واقعنا، وبما يحدث قطيعة تاريخية مع الاستبداد وحكم الغلبة والمركزية، ويحقق معالجات واقعية للمشكلات الوطنية القائمة مثل القضية الجنوبية وقضية الشراكة الوطنية في السلطة والثروة.

4-  الدولة الاتحادية ليست فكرة غريبة عن اليمن، على العكس من ذلك، فالمتتبع لتاريخ نشوء الدول والممالك اليمنية في عصر ما قبل الإسلام سيلحظ أن النظام الاتحادي مثّل الأساس الذي نشأت عليه تلك الدول. فقد كانت السلطة موزّعة بين الملك ومجلس يسمى (المزاود) [شبيه بمجلس النواب في عصرنا] ويتكوّن من الأقيال وزعماء القبائل وكبار المُلَّاك. كما عرفت اليمن في مرحلة تاريخية لاحقة النظام الاتحادي الفيدرالي بصيغ مختلفة ووفقاً للسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في كل مرحلة.

5-  عمدت بعض الأطراف الفاقدة لمصالحها من التغيير إلى شيطنة النظام الاتحادي الفيدرالي وتعبئة الناس ضده، بل يمكن القول إنه خلال السنوات الماضية لم تتعرّض فكرة للتضليل والتشويه مثلما تعرّضت فكرة الدولة الاتحادية!

فقد لجأ فريق ما إلى تصوير فكرة الدولة الاتحادية للناس وكأنّها مروق عن الدين، أو مؤامرة كونية تهدف إلى تقسيم البلاد. واشتغلت ماكينة التحريض في وسائل الإعلام وفي منابر المساجد وفي الأماكن العامة ضد كلّ من يتبنّى خيار الفدرالية.

وهناك فريق آخر يقف على الطرف النقيض، لجأ إلى استثارة عواطف الناس ــ لا سيما في الجنوب ــ ضد الدولة الاتحادية، وتصويرها وكأنّها محاولة للالتفاف على مطالب الجماهير في فك الارتباط والاستقلال!

6-  فكرة الدولة الاتحادية في لُحمتها وسداها ليست تقسيماً للبلاد، ولا هي متناقضة مع الدين، ولا هي أيضاً حيلة لاحتواء المطالب المشروعة للجماهير.

الدولة الاتحادية هي نظام إداري ـــ سياسي وصيغة من صيغ الوحدة، تعيد ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتضع كافة المكونات الاجتماعية ومن مختلف المناطق على قدم المساواة والتكافؤ الندي، فلا يوجد في الدولة الفدرالية "مركز" و"أطراف تابعة"، كما هو الحال في الدولة البسيطة.

7-  إنّ الخيار الاتحادي علاج وقائي ضروري لتفادي تشظي اليمن إلى دويلات. وهو الحل الواقعي الموضوعي المطروح في مقابل المشاريع التطرفية الأخرى التي تتمثل بـ: التمسك بالدولة البسيطة، والمشروع الطائفي، ومشروع فك الارتباط.

فخيار التمسك بالدولة البسيطة لم يعد خياراً مقنعاً لقطاعات شعبية واسعة نظراً لما جَنَته تجربة الدولة البسيطة من وبال على اليمن، والحرب الأخيرة قد وسّعت دائرة الناقمين على الدولة البسيطة.

أما خيار فك الارتباط فهو قفزة في المجهول، وغير مأمونة عواقبُهُ على صعيد وحدة الجنوب؛ إذ أنه لا يلقى إجماعاً شاملاً من الجنوبيين أنفسهم، فهناك طيف واسع من أبناء المحافظات الشرقية يتوجسون منه خيفةً.

8-  إن وثيقة مخرجات الحوار الوطني ومسودة الدستور الاتحادي قد رسمتا الأسس الدستورية والتشريعية للدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية التي يتطلع إليها اليمنيون، وقد مثّلت هاتان الوثيقتان مكسباً تاريخياً ووطنياً ينبغي مراكمة النضال الاجتماعي من أجل تنفيذ مضامينهما، ومواجهة كل المساعي الرامية للالتفاف عليهما من أيّ طرفٍ كان.

9-  كان الاتجاه العام في مؤتمر الحوار الوطني هو تبني الخيار الاتحادي الفيدرالي كحل توافقي للمشكلات الوطنية، بيد أن المكونات المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني قد تباينت رؤاها حول بعض التفاصيل وعلى رأسها عدد الأقاليم.

10-   برز اتجاهان رئيسيان في إشكالية الأقاليم، الاتجاه الأول: تبنى دولة فدرالية من اقليمين (إقليم في الشمال وإقليم في الجنوب)، والاتجاه الثاني: تبنى خيار دولة فدرالية مكونة من 6 أقاليم هي: إقليم حضرموت، وإقليم سبأ، وإقليم آزال، وإقليم تهامة، وإقليم الجند، وإقليم عدن.

11-   يأخذ المعارضون لخيار الـ6 الأقاليم أنه لم يبنَ على أسس علمية كافية، بل على العكس من ذلك، إذ إنه سيقسم البلاد إلى أقاليم غنية بالموارد وقليلة السكان في مقابل أقاليم فقيرة بالموارد وفيها تركز سكاني هائل، مما يلقي بظلال قاتمة على مستقبل الوحدة الوطنية ويحد من نجاح النظام الاتحادي في تحقيق أهدافه التنموية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية المنشودة.

12-   على أهمية فكرة الدولة الاتحادية وضرورة تطبيقها في اليمن للخروج من أزماتها المتفاقمة، إلا أنّ ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى اعتبار هذه الفكرة وكأنها عصا سحرية بمجرد الأخذ بها ستنتهي كل مشكلاتنا وأزماتنا، بل ينبغي القول بأن الفدرالية تمثل خيار محوري ضمن جملة من الإجراءات والسياسات التي تحتاجها اليمن، ومن تلك: مواجهة العصبيات المناطقية والطائفية من خلال بناء خطاب وطني جامع يؤكد على الهوية الوطنية الجامعة والمصير المشترك لجميع اليمنيين، والتأكيد على قيم المواطنة والتعايش والديمقراطية والحوكمة الرشيدة.

أخيراً يمكن القول:

تقف اليمن اليوم أمام مفترق طرق. وباتت المخاطر التي تهدد بقاءها ككيان وطني موحد أكثر من أيّ وقتٍ مضى، في ظل صراع المصالح وحرب الوكالة التي تخوضها قوى محلية واقليمية على الأرض اليمنية منذ سبع سنوات، سحقت الملايين من اليمنيين معيشياً واقتصادياً ونفسياً واجتماعياً، وأحدثت دماراً هائلاً في البنى التحتية، وأضرّت بالنسيج الاجتماعي أفدح الضرر.

الأمر الذي يفرض على كل الوطنيين في داخل البلاد وخارجها أن يتداعوا، وأن يسارعوا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه كخطوة أولى لبعث الحياة في جسد هذا البلد.

إنّ تفادي تشظي اليمن إلى دويلات والإبقاء عليه ككيان موحد هي المهمة التاريخية التي تنتصب أمام الجميع حالياً.

ولن يتحقق ذلك إلا بإنهاء الحرب والعودة إلى العملية السياسية التوافقية، والشروع في استكمال مهام المرحلة الانتقالية، وبناء الدولة الفدرالية الديمقراطية المدنية، دولة المواطنة والشراكة والعدل الاجتماعي.

 

 

الهوامش والإحالات:

1-  عبدالناصر المودع، دليل المصطلحات السياسية، صنعاء، مركز التنمية المدنية ومنظمة فريدريش ايبرت ــ مكتب اليمن، 2012، ص356.

2-  د. رضا الشمري، إمكانيات تطبيق النظام الفيدرالي في العراق، بغداد، مجلة القادسية، مج8، العدد4، 2009م، ص130.

3-  أمين محمد المقطري، شكل الدولة الأنسب لتعزيز الحكم الديمقراطي في اليمن، ضمن كتاب: الحوار الوطني في اليمن – رؤية قانونية، مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان، ص206.

4-  رونالد ل. واتس، الأنظمة الفدرالية، أوتاوا، منتدى الاتحادات الفدرالية، 2006م، ص8.

 

 

 

 


وثيقة
مخرجات الحوار الوطني

تحميل الوثيقة ←

مسودة
دستور اليمن الجديد

تحميل مسودة الدستور ←